القائمة الرئيسية

الصفحات

لوحات من دوار : دم الحفلات - ذ. إدريس كروج

 

لوحات من دوار - سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كروج

الجزء الثاني عشر : دم الحفلات


كنا يوما أطفالا نهوى اللٌَعِبَ و اللٌُعَبَ و الألعاب و الحفلات و أكل الملذات و الفواكه و الحلويات و نكره كل من يلزمنا بأي التزام. ونحب الحرية على الدوام و لا يرغمنا على دخول البيوت إلا الجوع و العطش و الليل، كنا نتيه بين أشجار البساتين بحثا على فواكه الفصل بدوارنا من رمان و تين و "الهندية" (تين شوكي) و عنب والتوت البري (العليق) و حبات التغزاز الحلوة والخروب، أما أشجار الفواكه الأخرى كالبرقوق والبرتقال والمشمش فكانت نادرة وكانت جل الحقول والبساتين مسيجة "بِأَسَتٌِيف" (العليق framboisier) و "بالرمان العطمي" ( العظمي).

كنا نحب اللعب ونسبح في خيال كل لعبة حتى ننسى أننا نلعب، ولحظة نترك اللعب جميعا ونجري مسرعين بلا إتفاق تقودنا غريزة الإطلاع والاشتياق إلى موسيقى تبشر السامع بأن اليوم في الدوار فرح. و كلنا يهوى الأفراح و أكل الأفراح، و كانت كل أفراح الدوار أفراح كل السكان بلا استثناء وكل السكان يتحدون و يتوحدون في الأفراح و الأقراح.

ننطلق بلهفة إلى مكان تصدح فيه ألحان غيطة "حمادي الكانا" و إيقاعات طبلي جوقته رحمهم الله، و أثناء الوصول نرى عمي حمادي بطلعته البهية و جلبابه البني و رزته البيضاء وسط جمع اختلطت فيه النساء بالرجال و الأطفال و الكل يصفق و يتمايل مع النغم الجميل الذي لا يبخل العازف على المزيد من العطاء. و من النظرة الأولى نعلم موضوع الحفل:

  • إذا تقدم الجمع ثور أو خروف و فتيات يحملن صينيات فوقها قوالب سكر و شاي و بعض الحلويات و الحناء نعلم أنها خطوبة و سيدوم العرس أسبوعا و كل يوم باسمه و ينتهي بيوم الدخلة و بحفلة العرس، و طيلة الأسبوع لا يمكن لمولاي السلطان (العريس) أن يلتقي بأبيه و أمه من شدة الحياء و لا يقوم بأي عمل بحيث يبقى دائما مع بعض أصدقائه و وزيره الذي يربط الاتصال بينه و بين الأب و الناطق الرسمي له.
  • إذا تقدم الجمع حصانا فوقه عروسة في إزارها الأبيض و يردفها أحد أقاربها نعلم أنه زفاف و ليلة نهاية مراسيم العرس.
  • إذا تقدم الجمع حصانا فوقه رجل يحضن طفلا نعلم أنه يوم نحس على الطفل و لا يدري و كل واحد منا يتفقد عضوه بلا شعور. و نتبع الموكب الذي سيطوف به بضريحي سيدي بوجعفر و سيدي يوسف و هو فرِح بركوب الحصان و لباسه الأبيض.

كانت حفلات الختان و اليوم الأخير من أسبوع العرس تدوم الليلة و نحن نتمتع بأحيدوس و "سرابات" الشيوخ و" أنشل" و"الردما" و تزداد الفرجة حلاوة عندما يبدأ الشيوخ "ينعرون" (يهجون) بعضهم و كل الحاضرين يضحكون و يميلون إلى شيخ دوارهم، و كؤوس الشاي توزع على الجميع بلا حلويات و من كثرة حلاوة سكرها عوضت الحلويات، ثم نتعشى بالطعام و اللحم (الكسكس ) و المرق و اللحم وخبز المطلوع.

و بعد نهاية المأدبة يجلس الجميع و يصدح "الشيخ"  أو أي شخص أخر له صوت قوي و رقيق بموال حزين يذكر الحاضرين بأحبابهم الغائبين و الراحلين إلى دار البقاء و يُبكي كل النساء و بعض الرجال و يذكي فيهم الشوق إلى رؤيتهم أو يعيدهم إلى ذكريات الراحلين، و بعد الموال ينشد الجميع قصيدة مطلعها:

صلى الله عل النبي و صلى عليه
محمد بوفاطما يا فارحاتي بيه
صلى عل النبي و زيدو في صلاتو
محمد بو فاطما شفيع أمتو
خِيٌِي يا خيطا لَحرير دَرتُو فالشدا
و اعليك يا خيي لحبيب كرهوني لعدا. الخ...

و في الأخير يقوم الجميع ليرقصوا و هم يرددون:

أوهنا طاح الويز 
أو هنا انْشُوشُو اعليه (انشوشو :نبحث)

و يتفرق الجمع و لا يبقى بدار الزفاف إلا عائلتي العريس و وزيره و العروسة. و تبقى العروسة وحدها في الغرفة و وجهها مغطى بمنديل أبيض تنتظر قدوم العريس الذي ستتعرف عليه أول مرة.

ثم يلتحق بها العريس خفية و يغلق الباب و هو يعلم أن وراء الباب ستقف أمه و أم العروسة و أخواتهما في انتظار "المنصورية" أو "السروال" ملطخة بقطرات دم ترفع شرف الأسرتين إلى الأعلى.
  
و عند دخوله يقول للعروسة: عري وجهك. و تجيبه : أَرَى ما فِدٌَك (الهدية)، و قد يصاب العريس بالخجل و تمضي الليلة في المحاولات.

و في الصباح يساق الطفل ليؤدي ثمن النزهة فوق الحصان ببتر "جغلافته" (القلفة)، حيث يحمله أحد أقاربه، أما الأب فيبقى قرب زوجته يهدئ روعتها و بكاءها على ألم فلذة كبدها.

و يجلس به الحامل أمام لمعلم خلوق رحمه الله الذي يخرج من "أقرابه" (حقيبة من ألياف الدوم) المقص السادي الذي عذب جيلي بدواري و القبيلة بلا رحمة أو شفقة و يفرق رجليه و هو يقول للطفل: شوف شوف واحد لبريطل، و ما يكاد يلتفت حتي يبتر مقس لمعلم خلوق جغلافته بمهارة و خفة فائقة و يضعها بقصعة مملوءة بالتراب، و تصدح غيطة حمادي الكانة رحمه الله لتمويه صراخ الطفل من شدة الألم حتى لا تسمعه الأم و يزيدها كمدها، و ينصرف لمعلم خلوق الذي لم يرتكب خطأ قط في الختان و الحلاقة و الحجامة و إزالة الأضراس و الأسنان "بالكُلاٌَب" و بلا بنج.

كل حفلات الزفاف و الختان تبدأ بأنغام غيطة حمادي الكانا رحمه الله و تنتهي صباحا بالدم و أغلى نقطة دم، دم حفلة الزفاف.. وقد تنتهي أحيانا بالضرب المبرح في الزفاف و العودة إلى العدول للتطليق، و قد تكون العروسة بريئة من كل الشبهات، و من يصدقها ؟؟!

تعليقات