القائمة الرئيسية

الصفحات

لوحات من دوار : طبيب الدوار -ذ. إدريس كروج



لوحات من دوار - سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كروج

الجزء الحادي عشر : طبيب الدوار


عذاب قبل الرحيل.
يا إلهي كيف جعلني كلامي على دواري أعاكس صيرورة عمري و أعود عقودا إلى الوراء لأجدني بدوار امطرناغة السفلية طفلا صغيرا حافي القدمين و بقميص ممزق لا يكاد يستر عورتي واقفا بجانب أخوالي الثلاثة بباب بيتي القديم ننتظر قدوم الفقيه ليشفي أمي من سقمها الذي افترس شحمها و لحمها و تركها هيكل عظام ملفوف في جلد أصفر سيطرت عليه الشيخوخة المبكرة بتجاعيدها و حرمته من نعومة و نضارة و خفة و حيوية الشباب.

سقم أمي عنيف جدا و خطير جدا، هزم وصفات الأطباء و خلطات العشابين و طلاسم المشعودين و كرامات الأضرحة و أدعية الرقاة المغلفين بالدين. و حيٌَر رؤية غيب الشوافات و الشوافين و نَفَثَ الشرفاء النفاثين و كي مسامير الكاوين و بخور و ذهون و زيوت العطارين.

سقم أمي ليس ككل الأسقام بل هو جن أحمر خطير سكن جسمها النحيل و رفض الخروج لأنه أعجبه السكن بلا أجر . هذا ما وصل اليه فقيهنا بعد ان ضرب "الخط الزناتي" و وعد بإخراجه و طرده كما طرد جنونا كثيرة من أجسام مصحوبة بنفوس الأجسام و ارتاحت النفوس و نامت الأجسام بعودتها إلى اصلها إلى التراب.

وصل الفقيه ممتطيا بغلته العالية و جسمه المكور يتمايل فوقها كرقاص الساعة مغلف بجلابيب مختلفة ككوز الدرة و أمامه حقيبة بنية تتخللها بقع رمادية من فعل القدم كستها رهبة و خوفا و عظمة و لا يستطيع أحد لمسها أو الإقتراب منها لأن ما بداخلها ذو بأس شديد لا يقهره إلا من ملك مُلْك سليمان كفقيهنا.

أعانه أخوالي على النزول من فوق مطيته و ساعدوه على المشي لأن ركبتيه عجزتا على حمل جسده السمين "المترتر" فأصابهما إلتهاب حاد من ضغط الثقل و كثرة الجلوس أو ربما أصابتهما نيران جن فأحرقت غضاريفها أثناء صراع بين الفقيه و "جن أحمر" انتهى بقتل الجن و جسم كان يسكنه الجن الأحمر و إتلاف غضاريف ركبتي الفقيه. هذا مقال الفقيه و شيعه وسط الدوار فنسي الدوار المقتول بطلاسم الفقيه و آمن أهل المقتول أن فقيدهم مات و بداخله جن مقتول و ذلك قدره.

فقيهنا لا يطرد الجن وحده من الأجساد كعادته في كل الحالات بل مصحوبا بالنفوس و قد يسبقها الجن و بسرعة تلحقه النفوس التي ارتبطت به و لا حياة لها بدونه و هذا ما كان يحير الفقيه فيختار اهون الضررين طرد الجن مرفوقا بالنفس ليريح المريض من عذابه بموته و بدافع الشفقة.

في قاموس فقيهنا كل أسباب الأسقام جن، و شدة الأسقام تعود إلى نوع الجن: الجن الأحمر أشد خطرا، و الجن الأصفر أقل خطرا، و الجن الأبيض خطره لين. و قد يكون مسلما أو كافرا المهم كل الجنون التي تخلصت منها أجساد الدوار بفضل فقيهنا تخلصت من النفوس كذلك و بلا استثناء فارتاحت الأجسام و أهلها و الدوار من سماع الأنين.

دخل الفقيه غرفة أمي الممتدة على حصير من الحلفة و حبال الدوم و مغطاة ببطانية من الصوف الأبيض تتخللها خطوط عريضة من الصوف الأسود نسجتها بيديها قبل السقم فأجلسها أخوالي أمام الفقيه و هي لا تدري ما سيُفعل بها، و أحضروا مجمرة مملوءة بقطع جمر ملتهبة حمراء وضعوها بين رجلي أمي و أمر أخوالي أن يمسكوا بيديها و راسها بقوة حتى لا يغلبهم الجن و تقع مصيبة خطيرة للحاضرين، ثم أخرج قارورة مملوءة بقطران ممزوج بخلائط أخرى بلل بها قطعة من الصوف و وضعها في المجمرة فانبعث منها دخان كثيف يخنق الأنفاس، و هنا تحركت عضلات أمي و هي تصيح و تحاول الإنفلات حتى كادت أطرافها تنفصل على المفاصل دون جدوى و المكلف بالرأس يدفعه بقوة ليبقى أنفها فوق المبخرة تستنشق دخان التركيبة المحروقة، و الفقيه يحذرهم من التراخي.

و تعالى صياح أمي المبحوح و استعطافاتها و دموعها تتهاطل على الجمر مختلطة بلعابها الأحمر، هنا صرت أبكي و أنا أرى أمي تُقتل أمامي و ارتميت على يد الفقيه أقبلها لإطلاق سراح أمي فصفعني صفعة أغلقت سمع أدني لأمد طويل، و انهارت أمي و فقدت وعيها و تدلى رأسها فوق المجمر و كاد وجهها يحترق كما احترقت بعض من خُصُلاتِ شعرها الأسود التي تدلت من غطاء رأسها من شدة الدفع و حملوها جثة بلا حركة و لا وعي تئن أنينا خافتا و نفس متقطعة و عينين مغمضتين و مددوها فوق الفراش، ثم أعانوا الفقيه على الوقوف و الخروج و ركوب بغلته و أدوا له ثمن الشفاء الأبدي مشكورا.


اقتربت من أمي باكيا و ناديتها لكنها لم تجبني كعادتها و رأيت وجهها ازداد صفرة و يسيل من فمها لعاب أحمر، و في الليل زار بيتنا إمام المسجد وجلس قرب رأس أمي و هو يقرا القرأن ثم سكت لحظة و وضع يده على عينيه و يده الأخرى تجر البطانية لتحجب وجه أمي رويدا رويدا حتى غاب وجه أمي و نعانا الإمام برحيل أمي.

بكيت و بكينا انا واخي و اختي و تعالى الصياح و النحيب، و أنا أقول في نفسي: يا ربي ماذا فعلت للفقيه و أخوالي لكي يحرمونني من النوم بجوار أمي و حنان أمي و من أنامل أمي و هي تداعب شعر رأسي لكي أنام فوق ركبة أمي.

احضروا النعش و رأيت أمي ملفوفة في ثوب أبيض ثم حُمِلَ النعشُ إلى المسجد تاركا وراءه نساء الدوار لا يبيكين على فراق أمي بل على أحبابهن تذكرنهن بموت أمي، ثم إلى القبر حيث رأيت جسد أمي يختفي رويدا رويدا بوضع الحجارة و اختفت أمي تحت التراب و بقيت في الكون بلا أب و لا أم و شعرت بفراغ خطير و عيناي تبحث في زوايا المقبرة و القبور مرتبكة لعلني أرى أمي و أفيق من حلمي، لكن الواقع صدمني بحقيقته المرة و جفت دموع عيني لينطلق قلبي بدمه يبكي.

عدت من المقبرة و أنا أمني نفسي أن أمي ستعود و أحكي لها ما وقع بعدها كما منيت نفسي بعودة أبي من السوق ليناولني حلوتي لكنها لم تعد و لم يعودا.

و قفت و أخي و اختي بباب بيت كانت تسكنه أمي و بدأ وفد العزاء يتفرق و كل من مر بنا وضع يده على رؤوسنا و ينصرف و لم أعلم أن رؤوسنا صارت كالحجر الأسود من مسه غُفِرت له كل الذنوب كما يشاع.

رحل الجميع و رحلنا مع أحد أخوالي الى بيته بعد أن وضعنا أثاث بيتنا فوق ظهر الحمار، حصير قديم و بطانية صوفية و صندوق خشبي و طاولة خشبية مستديرة ثلاثية القوائم و صينية نحاسية لا زلت أملكها لكي نحيا و سط أسرة خالي الذي لم يرزق خلفة.

زرت قبر أمي بعد كهولتي و زرت قبر القاتل أسأله: هل من دفن فيك يا قبر أخدت الملائكة نفسه أم أمروه بإخراج نفسه.

أستيقظت من حلم سفري بنداء زوجتي تطلب مني الإلتحاق بالمائدة لتناول العشاء و لاحظَتْ دموع عينيٌَ فقلت لها : لقد تأثرت بحمولات ريح قديم مر مسرعا فانفلتت فابتسَمَتْ و ببسمتها ابتسمتُ و نسيت أن أنسى أنين أمي الذي لا زال يعاودني.

تعليقات