القائمة الرئيسية

الصفحات

مدرستي الحلوة - الجزء الثالث : صراع الفصول و حفلات الوداع



مدرستي الحلوة - سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كيروج

الجزء الثالث : صراع الفصول و حفلات الوداع

في طفولتي كانت فصول السنة أنانية إلى أقصى الدرجات. كان كل فصل يستغل مرحلته كاملة و لا يتنازل و لو بحيز قصير من وقته لفصل آخر. الخريف يطرد الصيف في أول يوم من حلوله و يسيطر بشيخوخته على الأرض و يمحي نضارتها و شبابها و يطلق العنان لزوابعه لتلهو  بقش حياة صارت هباء. ثم يطرده الشتاء عقابا على فعلته و يبكي على أرض فقدت زخرف جمالها الساحر و يدوي برعده و ببرق أعصابه حزنا عليها  معتقدا أنها فارقت الحياة و يكفنها أحيانا ببساط أبيض ليدفنها بعد أن ضربها بالبَرَدِ للتأكد من موتها و لم تتحرك.

لكن الربيع أتى ضاحكا من غباوة شتاء لم يفرق بين سبات الخلق و موته و نزع الكفن الأبيض البارد بدفئه و أيقظ الحياة من مرقدها لتتجمل و تعيد شبابها و نضارتها و زخرفها استعدادا للقاء عشاقها المتيمين بمفاتنها . و فر الشتاء معاتبا نفسه  لاعتقاده أن الأرض تموت رغم آلاف السنين و هو يعتقد عند حلوله نفس الاعتقاد  متأثرا بشيخوخة الخريف التي تضعف الذاكرة  أحيانا.

غنت الحياة بانبعاثها و فضلت فصل  الشباب على غيره. لكن الصيف الغيور أتى مسرعا في بداية وقته مزمجرا و شرارات الحر تتطاير من عيون أشعته التي تستولي على كل البقاع نهارا  مصمما على إحراق قشيب الربيع المزهو بنفسه و  لن ينصرف إلا بعد الانتقام من أرض فضلت الربيع عليه و يسلمها عجوزا شمطاء لفصل يأتي من بعده

كل تقلبات الفصول عشناها خارج و داخل حجرة مدرستي الحلوة  التي تجهل أجهزة التدفئة.

أجسادنا كانت ترقص من شدة البرد داخلها و لم نستطع التغلب عليه رغم مساهمات كل الأجساد في التدفئة الجماعية و اختلطت رعدة البرد برعدة الخوف. و معلمنا لا يفارق جلبابه الصوفي بني اللون و يقضي لياليه وحيدا يكاد يجمد من قلة الأكل و الصقيع. إنه فصل الشتاء.

حرارة مفرطة تخنق الأنفاس داخل الحجرة ممزوجة برائحة أحدية المطاط التي تبعث على الغثيان لا يشمها إلا غريب ولج الحجرة .أما أُنوفنا  ألِتفها كما تألف أنوف السكان المجاورين لمطارح الأزبال نتونة الأزبال. و يشمئز معلمنا من تلك النتونة و يرغمنا على تنظيف الأبدان و ليس في بيوتنا ماء لغسل الأبدان بل للشرب .إنه فصل الصيف.

و رغم ذلك نحب الصيف لأنه يبشرنا  بدنو العطلة و بالاستعداد لحفلة الوداع.

في نهاية كل سنة كنا نحتفل بقدوم العطلة و الوداع. كل منا يؤدي درهما لمعلمنا و يشتري لنا خبزا أبيضا طويل الشكل كخبز "مسيو رٍيُو" (الكومير)  و قارورات "فانتا" و "لاسيكون" و "كوكاكولا " وعلبة كبيرة من مربى المشمش و مرات علب السردين التي كنا نفتحها بأسناننا لعدم وجود مفتاح العلب. و بعد نهاية الأكل  نغني نشيد الوداع و نحن نسكب الدموع و يصعب الفراق حقا رغم حبنا لعطلة تفرقنا:



نادى الرحيل بالفراق    هل بعده لقاء

نادى الرحيل بالفراق    هل في اللقاء رجاء

هذا شعارنا يشهد    علينا في الغياب

إنا و إن طال الأمد      سنسعى للإياب

ليس افتراقنا وداع       إذ ضمنا الوداد

ما قام هذا الاجتماع       إلا للاتحاد

و في النهاية نقبل أيادي زملائنا و معلمنا الذي قد يودعنا و لن نراه مرة اخرى كسابقيه  ونفترق لمدة ثلاثة أشهر خلالها يعود جلنا إلى مدرسة آبائهم لمساعدتهم في كل الأشغال الفلاحية من الحصاد وجمع التبن إلى رعي الأغنام أو ليعملوا بالمزارع المجاورة في جني العنب و نقل قففه المنسوجة من ألياف الحلفاء على الأكتاف و يستحم الجسد بعصير العنب الأحمر القاني و تلاحقه سحب من الذباب الباحث على حلاوة الغليكوز طول النهار.

و عند نهاية العطلة نعود إلى حجرتنا بوجوه سمراء من شدة أشعة الشمس و حرارتها و بأياد خشنة متورمة بالفأس و المنجل و الحبال و مقصات جني عناقيد الأعناب.

كانت حياتنا رتيبة في كل شيء إلا من أجسام تتغير ومقررات تتجدد و معلم ينتقل و يعوضه آخر و بدلة جديدة في بداية الموسم و قد تكون جديدة على أجسادنا و مجرد خردة في السوق.  و قد تطول عطلتنا في انتظار التحاق معلم كُتب عليه المنفى ليعيش وحيدا بعيدا عن الناس و الحياة.

تعليقات