القائمة الرئيسية

الصفحات

لوحات من دوار : يتيم الدوار - ذ. إدريس كروج

 

لوحات من دوار - سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كروج

الجزء التاسع: يتيم الدوار "الحرمان بكى"


من وراء قمة جبل "بويبلان" الشامخ المستقر بلباسه الأبيض الناصع بين سلسلة جبال الأطلس المتوسط و هضابها، يصعد قرص الشمس بحجمه الكبير و لونه الأصفر في السماء متثاقلا و مزهوا بأشعته الذهبية التي يسلبها قر ريح "الشركي" (الشرقي ) حرارتها و يلقيها على القرى البعيدة من سفحه قبل المجاورة له نظرا لعلوه، و يبشرها بصفاء السماء من السحب و الغيوم المتراكمة و ومضات البرق المتكررة و دوي الرعد و تهاطل الغيث. و بعد إعلانه بيوم جميل يتابع علوه في السماء الزرقاء و يتقلص حجمه و يبيض لونه و تستولي أشعته على كل المعمورة و يأذن للحياة بالإنطلاق.

كان جبل "بويبلان" لا يفارق ثوبه ناصع البياض إلا شهورا قليلة من كل السنوات و من رآه متأثرا بتشاؤمه أو تفاؤله تخيله عروسة جميلة في زيها الأوروبي الأبيض الطويل تجره من خلفها بمساعدة وفد الزفاف متأبطة عريسها ببدلته السوداء حيث تغدق أضداد الألوان جمالية على لوحة الأفراح، أو جثة هامدة في كفنها تنتظر النعش لحملها الى مثواها الأخير تاركة وراءها عويلا و بكاء و دموعا تزبد لوحة الفراق أحزانا و كآبة و ألما.

و تختلف نظرة عالم الحياة إليه بحيث يراه أما حنونة تضمن عيش صغارها بلبن ثدييها ليستمروا في الحياة و الإستقرار نظرا لما يختزنه من ماء، للشرب، والطاقة و الدخل، و الانتاج و يضمن مكوث أهل القرى بمنابع مياهه العذبة المتدفقة بلا انقطاع و يمد الحياة بشرايين الحياة، ليستمر دبيب الحياة حتى في أيام الدفء أو شدة الحر.

لم تق أشعة الشمس التي استسلمت للقر أجساد سكان القرى من قساوة البرد القارس، فكانت كل المنازل تتصاعد منها سحب كثيفة من دخان الحطب أو روث البقر اليابس المحترق كل صباح و مساء.

جل أسماء قبائل و مداشر و قرى تلك المنطقة أمازيغية أو تحمل إسم ولي ضريحها أو زاويته كزاوية سيدي "محمد بوكرين" التي تضم مجموعة دور من التراب الكلسي المضغوط بالتابوت (اللوح)، اختلط لونها الأحمر الآجوري بخضرة بساتين غالبية أشجارها الزيتون و التين و الرمان و كروم العنب المعروشة ترتشف مياه المنابع الرقراقة التي تنساب بين الأزقة و المروج و الحقول طول السنة لتحتفظ بنضارتها في كل الفصول بإستثناء الأشجار النفضية التي تفقد أوراقها في فصل الخريف.

كل تلك الألوان ميزت ضريح سيدي بوكرين بقبته و قرميدها الأخضر القاني و جدرانه البيضاء و نوافذه بشبابيكها الحديدية التي تحمي صندوق القرابين النقدية من السطو رغم ما يشاع أن صاحب الضريح يحمي صندوقه ببركته حيث يحكى أن أحدد اللصوص سرقه و قضى ليله يمشي جريا ليصل إلى جهته و عند الصباح وجد نفسه لا زال بداخل الضريح فأعاد الصندوق الى محله و طلب التسليم و المغفرة و فدى نفسه بذبح عظيم.

و توجد بباب الطريق المؤدية إلى وسط الزاوية أرض صخرية خالية من النباتات و الأشجار إلا شجرة تين عتيقة لا يعلم أحد تاريخ غرسها أو غارسها هل إنسان أو عوامل طبيعية ساهمت في وجودها و لا مالك لها لأن الأرض أرض جموع.

لم تفرح تلك الشجرة يوما بطزاجة تينها و لا بقشيب أوراقها أو سموق اغصانها و لم ينج جذعها من خدوش و جروح كل المواد الحادة من شفرات الحلاقة إلى السكاكين و الزجاج و الضرب بالحجارة حتى تعبت من نزيف عصارتها اللبنية اللاتكسية لتضميد الجراح.

كانت تتعرض يومين في الأسبوع الأربعاء و الأحد للتعذيب من طرف الأطفال الذين يجتمعون حولها لإنتظار عودة آبائهم من السوق و يعكرون راحتها حتى في فصل نومها و لا تسلم منهم إلا ليلا، أو بتساقط الغيث.

و ما يكاد الأطفال يرمقون قدوم قافلة المتسوقين حتى ينسون الشجرة و ألعابهم و ينطلقون بسرعة لملاقاة آبائهم ليأخذون ما اشتروه لهم من حلوى و فواكه و معجونات و يتبعهم طفل صغير يجري بدوره و هو يتألم من وخز الأشواك التي انغرست و تكسرت داخل رجليه الحافيتين، و يتفحص الوفد بنظراته الحزينة البريئة لعله يجد أباه بينهم و يتسلم قطعة حلوى كالاطفال، لكن لم يعثر على الأب و صار يتأمل رفاقه و هم يلتهمون الحلوى أمامه بشهية و هو يبتلع لعاب الحرمان الذي تكاثر في فمه و ينصرف الجميع غير آبه بالمنظر الحزين و يعود اليتيم وحده إلى الشجرة اليتيمة ليتم لعبه بالتراب أو الحجارة و هو يسأل نفسه:"متى يعود ابي؟" ثم يستسلم للنوم و يغلق الجفون. 

و بعد غروب الشمس بساعة تلتحق به أمه ككل يوم سوق بخطوات متثاقلة حتى لا تدوس قدمها أطراف الازار الأبيض الذي يلفها لأنها تعلم مكان ابنها كعادته و تحمله على ظهرها و يختلط إحساس الطفل بحنان قلبها و تسقط من مقلتيها دموع أثرت في قساوة الحرمان حتى بكى و لو هوت على جبل "بويبلان" لمزق بذلته البيضاء و تخلى عنها و يعلن الحداد بالجفاف دوما كما جفت قلوب المتسوقين من رحمة خلقها الله و اتخذها إسما له...

دخلت الأم إلى بيتها المظلم و بعد عثورها على علبة عود الثقاب بمشقة شعلت شمعة لا يتعدى ضوؤها الطاولة الخشبية المستديرة بقوائمها الثلاثة و وضعت كبدها على الحصير و سوت رأسه على كيس من قش الذرة و استلقت بجانبه و هي تشم رائحة طهي طواجين اللحم المنبعثة من مطابخ الجيران التي تتسرب كل يوم سوق إلى بيت ما بداخله من طعام إلا خبز شعير و ماء و زيتون فاسد و لبن تفوح حموضته لتخفف شدة رائحة الطبخ الشهي، ثم تغطي اليتيم بإزارها رويدا كي لا يفيق و قبل أن يلقي بها النعاس في رعب كوابيس أحلام لا تخلو من قطع لحم طازج تضعه في فم ولدها.

استمرت الأيام و الأسابيع و حرمان الأربعاء و الأحد تستنخ، و يعود الطفل عفويا الى أخته الشحرة اليتيمة و هو يمني النفس برجوع الأب في يوم لا وجود له في سيرورة الحياة.

عاد اليتيم يوما عفوا أخو شجرة التين لأنه لا يتم بعد الرشد، لكن عقابيله لن تموت لولا الرضى بقضاء العادل الذي نصف اليتيم ، عاد ليزور مدرسته التي تابع بها دراسته لطيما و يلتفقد أحوال شجرة التين التي لم يجد لها أثرا. رحلت كأمه و غطى الاسمنت بقايا جدورها وتصلبت الأرض فوقها كما تصلبت قلوب البشر على البشر.

من بدد الرحمة من قلوب كانت تفيض حنانا و شفقة يا مداشر قبيلتي؟ هل رحلت برحيل الأجداد يا قبيلتي؟ لست أدري.

تعليقات