القائمة الرئيسية

الصفحات

لوحات من دوار: سعداتك يا مدشري - ذ إدريس كيروج

لوحات من دوار- سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كيروج

الجزء الثاني: سعداتك يا مدشري


لم يكن بمداشر قبيلتي بني يازغة غني و لا فقير و لا طبقات، كل سكانها يمتلكون بيوتهم و من لم يكن له بيتا بنوه له كبناء بيوتهم. و كان بعضهم يملك فدادين الأراضي و البساتين و قطع الأغنام و من لا يملك يعمل أو يساعد المالكين في كل الأشغال بلا مقابل، و كانت بساتين المالكين مفتوحة في وجه من لا يملك ليأخذ ما يشاء. و كان صاحب القطيع يضمن أضحية الأعياد و الختان و العقيقة لمن ليس له ملك أو قطيع.

كانت كلمة من لا يملك لها قيمة و كلامه حلو و لم يكن "مَسٌُوسا" عملا بمقولة"اللي ما عندو فلوس كلامو مسوس".

كان كبار مداشرنا قضاة و أحكامهم تٌنفد بلا استئناف و كان إحترامهم طاعة و عبادة، و كانت أقوالهم و أفكارهم حكمة مستمدة من تجارب عيش الأزمنةو كانت أوامرهم و نواهيهم تربية و كل أطفال المداشر أولادهم و كل سكانها أبناؤهم و بناتهم، و لهم سلطة التأديب.

كان المدشر سعيدا حتى أيام السوق لن ينس الجار جاره الذي لم يتسوق و يدعوه واسرته ليتعشى معه أو يقسم معه اللحم و "لمقُضْية". 

كانت أخلاق التآز و التعاون و التعايش و حب الخير للجميع هي السائدة بين سكان المداشر حيث كان الجميع يشارك في حملات "توازة" أو "تويزة" لحرث أراضي وحصاد حبوب وجني غلل من لم يستطع القيام بذلك لأي سبب من الأسباب. حتى بساتين المداشر و فدادينها و قطعان أغنامها كانت سعيدة و معطاءة. و كانت السماء مدرارة بأمر الخالق، و كان كل فصل من فصول السنة يحل في وقته و ينصرف عند نهاية وقته: الصيف بحرارته وخضره و فواكهه الخاصة به و الخريف بريحه و زوابعه التى تلهو بالأوراق الصفراء المنثورة فوق الثرى. و الشتاء بغيثه المنهمر و قره و برده و ثلوجه وصقيعه و رعده و برقه و غيومه الكثيفة. و الربيع بقشيبه الأخضر و كلئه و أزهاره و براعيمه و حشراته و نحله، و النهر يشدو بخرير مياهه سائر الأيام ليطرب سلاحفه التي تصطف بشطيه لاستنشاق الهواء وتغوص في البرك عند سماع خطوات الإنسان خوفا من بطش الاطفال الذين لا يتوانون في رجمها بالحجارة.

كانت حياة المداشر سعادة في مجلدات كتاب ضخم نقرأه باستمرار و لن نمل من رتابته السعيدة. فمن طوى الكتاب أو ربما من أحرقه.؟

لقد استوعب سكان مداشر قبيلتي القدامى الحياة فعاشوها سعداء ببساطتها و كرموا الإنسان و لم يزنوه بالماديات و لم يطغ عليهم جشع الماديات و لم يخنقوا أنفاس المحرومين من الماديات بالماديات و من أجل تضخيم الماديات و يُحَوٌِلُون دماء اجسادهم النحيفة إلى ماديات لأنهم علموا أن في الحياة ماديات و ليست كل الحياة ماديات ففيها ما هو أغلى من الماديات، تكريم الإنسان الذي كرمه خالقه و القناعة بما يكفي لضمان الإستمرار في الحياة و ترك الفائض للأخرين ليستمروا بدورهم في الحياة بلا حقد و لا غل على من يمتلك الماديات. 

هل الرقي هو قَتْلُ السعادة و الإنسانية و تحويل البشر الى آلات من مادة يتلاشى وجوده في الحياة اذا غابت عنه الماديات؟

تعليقات