زماننا أفضل من زمانكم (الجزء الثاني)
نجيب أتريد اليازغيـــ سأحكي لكم حكاية، وما عليكم إلا أن تمنحوني آذانكم وتستمعون إلي جيدا: "ذات يوم حضر شخص إلى مركز الحكم يشكو ضياع خروفه. لم يتهم أحدا لأن السارق كان مجهولا لا يعرف عنه أي شيء. وبعد أن استمع إليه الحاكم جيدا، أمره بإغلاق فمه والذهاب إلى حال سبيله على أساس العودة بعد يوم أو يومين.خرج الرجل من عند الحاكم حزينا على ماضاع منه، متعثرا في أهداب جلبابه المتسخ، فنادى الحاكم على مقدمه ثم همس في أذنه.. وعندما انشق ضوء الفجر، كان المقدم يتجول راكبا دابته في أزقة مدشر المشتكي. كانت الأزقة خالية والغبش منتشرا في كل ركن، لكن المقدم استطاع أن يميز طيف أحدهم قادما من رأس الزقاق. ولما اقترب منه، وجده طيف شاب في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره. تقدم الشاب مرتبكا رغم كل محاولاته لضبط نفسه، فسأل:
ـ عمن تبحث يا عمي طاهر؟
أجاب المقدم في تأكد وارتياح:
ـ إني أبحث عنك يا بني.. الحاكم يريدك بعد طلوع الشمس.
كان الحاكم قد أمر المقدم بأن يتجول داخل المدشر عند الفجر، ويخبر أول من التقاه وسأله عن سبب مجيئه، بأن الحاكم يريده. أحس الشيخ بالفخر ثم أردف مستنتجا:
ـ هل رأيتم كيف استخدم الحاكم ذكاءه ونباهته في معرفة السارق؟ ففي نظركم، ألا يكون من يقضي الليلة كلها بدون نوم، ومن يسأل المقدم عن سبب مجيئه إلى المدشر، هو الجاني؟
وذلك ما كان، فأخذ الرجل حقه والجاني عقابه. ضحكنا واستغربنا ثم طلبنا من الشيخ المزيد: ـ وهل لديك حكاية أخرى يا عم؟
ـ لدي بدل الحكاية حكايات، طيب اسمعوا هذه :
" ذات مرة، ذهب رجل لزيارة ابن خالته بأحد المداشر المجاورة لمدشره، فقضى اليوم بطوله هناك، ولما أراد العودة إلى حال سبيله في المساء، أصر قريبه على بقائه لأجل المبيت وتناول طعام العشاء معه. ولكي يحسن إكرامه ذبح جديا وقدمه إليه، بحيث لم يكد الظلام يستر الوجود حتى تصاعد الدخان في الهواء وانتشرت رائحة الشواء في كل أرجاء المدشر. كانت الطاولة تئن باللحوم على اختلاف أشكالها: فإلى جانب اللحم المشوي، هناك الذي طهي على البخار، وآخر على شكل طاجين بالخضار.ولما امتلأت البطون، طابت الجلسة وحلا السهر فجادت القريحة بأعذب الألحان وبأجود قصائد شيوخ المنطقة. وفي الصباح، خرج الضيف قاصدا مدشره؛ وهو في الطريق، اعترض المقدم سبيله وأخبره بأن الحاكم يريده. لبى الرجل الطلب وامتثل بين يدي الحاكم، فقال متلعثما وهو يرتجف من شدة الخوف: ـ ها أنذا بين يديك ياسيدي، فوالله ما فعلت شيئا يستحق مجيئي إلى هنا.. !
قاطعه الحاكم دون إتمام كلامه: ـ أنا الذي يسأل وأنت تجيب فقط.. قل لي ماذا قدم لك ابن خالتك على العشاء؟
ـ قدم لي لحما ياسيدي
ـ لحم ماذا؟
ـ أظنه لم ماعز يا سيدي.
ـ وهل علمت مصدر ذلك اللحم؟
ـ وما شأن الضيف بمصدر ما يقدم إليه من طعام يا سيدي؟
ـ إنه لحم جدي غادر قطيعه والتحق بقطيع ابن خالتك، وعوض إرجاعه إلى صاحبه، ذبحه وأكرمك به.. لحم ضيف قدم لضيف.. يا للغرابة !
كان الحاكم قد استدعى كلا من الضيف والمضيف دون أن يعلم أحد بأمر الآخر، لكن من وراء حجاب، لكي يتسنى للحاكم أخذ أقوالهما على انفراد. فعن طريق الضيف تأكد الحاكم بأن جديا قد ذبح في بيت المضيف، لذلك وجه إليه الإتهام مباشرة. وبعد محاصرته بالدلائل، لم يبق له من سبيل سوى الاعتراف.
كان الشيخ مزهوا ومفتخرا بنفسه أثناء حكيه لهاتين الحكايتين كما لو أنه خرج للتو من إحدى المعارك منتصرا. فقال لنا وه مايزال تحت تأثير نشوة الانتصار:
ـ أرأيتم كيف استطاع الحاكم بفضل ذكائه وخبرته، أن يضبط الأمور ويكشف الجناة بتلك البساطة؟ إذن ألم يكن فعلا زماننا أفضل من زمانكم؟ !
تعليقات
إرسال تعليق