القائمة الرئيسية

الصفحات

"النادر" عند بني يازغة: من قداسة "أكركور" إلى قداسة "إشارة سيدي بالعباس" (الجزء الثاني)



محمد السليلة - "النادر" عند بني يازغة


محمد السليلة - "النادر" عند بني يازغة: من قداسة "أكركور" إلى قداسة "إشارة سيدي بالعباس" (الجزء الثاني)


وبالعودة إلى قبيلة بني يازغة، نجد أن أكركور أو ليشارة، ليس أمرا عاديا أو هو مجرد كومة من الحجر، وضعت بشكل اعتباطي فهو من الطقوس والمعتقدات الأمازيغية الضاربة في التاريخ المغاربي، التي تعود إلى ما قبل الإسلام. ورغم أن الطقس اليوم، أصبح شيئا ثانويا يوظف بشكل غير واعي داخل القبيلة، فإنه كان في الماضي طقسا جوهريا.

ومهما يكن من أمر،فإننا لا نعدم القرائن الدالة على قداسة "أكركور" أو ليشارة"عند بني يازغة، فبالقرب من دوار السراغنة، مثلا تنتصب الطوبونيميا المحلية لتربطنا بشعائر السكان وطقوسهم الوثنية، فالمكان المعروف بكركورة حافظ على غطائه النباتي رغم أن المناطق المجاورة له تعرضت للاجتثاث وهذا ليس أمرا عاديا بدون دلالات، بل من المفترض أن هذا المكان كان يحمل في طياته أبعادا قداسية عند الأجيال القديمة، جعلته يسلم من حجم الدمار الذي لحق بالمجال الغابوي المجاور. وبالقرب من الأراضي الفلاحية نجد " المحارم"، وهي عبارة عن كراكير لتحصين الأراضي المزروعة. و"الرجم" وهو عبارة عن "كركور" كذلك لتحديد مساحة الملكية وحدودها، والرجم في اللغة يعني الموت وهو عقوبة كانت تطبق عند اليونان القدامى واليهود رميا بالحجر، ثم أقرها الإسلام لاحقا كحدٍّ على الزاني. ولا زال اليازغي يعمل على بناء مجموعة من "ليشار" على أرضه غير المحروثة في فصل الربيع، ليُحصنها من عيث الآخرين، ونفس الطقس يمارسه أيضا لحماية مياه السقي، حتى لا يصرفها عنه الناس إلى مكان آخر.

فأكركور كما يتبين من هذه الأمثلة، شيء شبه مقدس يستحضره المجتمع اليازغي لتحصين وحماية موارده. فهذا النصب الحجري كان في القديم يبعث على الخوف، لذلك كان الجميع يتبرم منه باعتباره موطن الشر واللعنة، وهذه الصورة الذهنية لأكركور ظلت مستقرة في الوعي الجمعي اليازغي، وتم استغلالها ليحافظ الناس على أملاكهم، فالشخص الذي يضع "أكركور" على أرضه، يهدف إلى حمايتها من تدخل الآخرين، ومن ينظر الى هذه الكراكير اليوم، يعرف أن صاحبها يمنع بها الرعي. لكن في القديم كان ينظر الى ذلك الطقس نظرة خوف وتوجس، ويترك أرض غيره لحالها، لا من باب احترام الملكية الخاصة أو خوفا من القانون، وإنما جراء الرعب الذي يولده أكركور في نفسيته. فالمجتمع اليازغي أحاط ممتلكاته بزخم هائل من المقولات ذات الطابع المقدس، الحرم، الرجم...بشكل عجيب لإضفاء نوع من الحصانة والحماية على أملاكه بزرع الخوف والفزع في النفوس للقطع مع جميع أشكال التعدي والعبث بملكية الغير.

ولأكركور استعمالات أخرى، سحرية، علاجية. يقوم بها الطفل اليازغي بإيعاز من الأهل، حيث عندما يصاب أحد الأفراد ب"ألطي" أو ما يسمى بشحاذ العين، يقوم ببناء أكركور"، أو إشارة وسط الطريق يضع فوقها قطعة خبز، أو سبع حبات من الشعير، وأول شخص يهدم ذلك البناء يصاب بمرض ألطي، فيما يشفى الطفل من ذلك حسب هذا الطقس ، لهذا فكل فرد من أهل بني يازغة حين يصادف كومة الحجر المنضد، الموضوع وسط الطريق عنوة ،يتحاشى هدمه أو حتى المرور بقربه اتقاء للشر ودفعا للمصائب .

وعموما لا يمكن فهم "إشارة سيدي بلعباس"وعلاقتها بالرياح الغربية عند اليازغي، إلا إذا ثم ربطها بالاعتقاد الأمازيغ في أكركور كما ذكرنا سابقا ، وبالتصوف المغربي في فترة العصر الوسيط من تاريخ المغرب، الذي عمل على أسلمة المعتقدات السابقة، فأكركور الذي كان في مخيال البربر علامة الشر والأذى، أصبح مع المتصوف مصدر الخير والمنفعة، فمثلا، الأسود التي كانت تثير الرعب أصبحت مع أبي يعزى (مولاي بوعزة حاليا) أليفة في حضرته وفي حضرة أتباعه، والأفاعي السامة القاتلة أضحت مع بركة الهادي بن عيسى" قلائد السياح في ساحتي جامع الفنا بمراكش، وساحة الهديم في مكناس. فالمتصوف المغربي حول معالم الشر والنحس عند الأمازيغ إلى معالم لليمن والبركة وأعاد تشكيل وقولبة المعتقدات القديمة وفق صيغ جديدة، تقوي سلطته ونفوذه الروحي داخل المجتمع. فأصبح لكل ولي كركوره، فالشيخ أحمد زروق له كركور براس تبودة، وسيدي أحمد أوموسى له كذلك كركوره الخاص بالأطلس الكبير، أما سيدي بلعباس السبتي فبكل نادر له كركور.


وفي الختام، أتمنى أن تتحطم الكراكير الجاثمة على العقول، ويسطع نور العقل وينقشع ضباب الخرافة وظلام الجهل لنفكر في اللامفكر فيه، وفيما نعتقد أننا نستطيعه ونمتلكه، ونهدم إشارات الخوف والإحباط ونبنى مستقبلنا وفق نظرة لا تقدس كل الماضي بل تخلخله وتخضعه للدراسة الصارمة لأخذ "ما يمكن أن يتعايش معنا اليوم" وترك ما دون ذلك.

تعليقات