القائمة الرئيسية

الصفحات

رجل الساعة.. خارج حسابات الزمن!‎


 محمد شدادي

استبد الألم بالجسد الواهن الضعيف، وارتعشت اليد النحيلة بعروقها البارزة، وصارت حركات الأصابع الدقيقة أكثر بطءا وارتعاشا، وأقل دقة.. وحدقت العين الغائرة بتمعن وتركيز عبر المكبر الدقيق، فانعكست صورة المعدن الجامد إلى الذاكرة المشوشة.. واستقر المشهد الكئيب على حاله للحظات، وقد تسمر الجسد النحيل دون حراك، وخمدت حركة المحل، وسكنت جميع الأصوات به. إلا من تكات خافتة لساعات قديمة رفضت أن تسلم دون مقاومة. بينما استكانت حركة العديد منها، وقد انتشرت بإهمال في أماكن مختلفة، فوق المنضدة المهترئة، أو على الجدران المتآكلة، أو بركن الحجرة الضيق، وقد برز من جوفها أحشاء معدنية صدئة.


تنهد العجوز أخيرا في الحيز الضيق المحدود، واستنشقت خياشيمه هواءا عفنا مشبعا برطوبة المكان، وممزوجا بصدإ الآلات، فسعل بشدة أسقطت المكبر الصغير المثبت بحدقتيه، فالتقطه في حنق وضجر، وثبته فوق عينيه بإحكام هذه المرة فبدا كقرصان،ثم راح يعالج العطب بملقط صغير على ضوء المصباح الوحيد فوق رأسه، وقد قطب جبينه وزوى ما بين حاجبيه، وركز كل تفكيره في عمله، متجاهلا الشخص الواقف ببابه، دون أن يعبأ بالرد على استفساراته, فسكت هذا الأخير مرغما، احتراما لتفكير العجوز, فعاد السكون يخيم على المكان من جديد، ومضى الوقت بطيئا، وخرست كل الأصوات، في انتظار ما تسفر عنه حركة الأصابع المدربة وهي تبحث مكامن الخلل، وتحاول إصلاح العطب, وبعد لحظات خيل للواقف أنها دهر كامل، أسفرت شفتا العجوز أخيرا عن ابتسامة واثقة عادت بعدها عقارب الساعة لتدور بشكل منتظم، وشق سكون الدكان رنين متصل لجرسها يدل على انتصار رجل الساعة، وعودة الحياة إلى آلة الزمن بيده، ثم تنهد بعمق وهو يسلمها إلى صاحبها الواقف بالباب، والذي أمسكها بلهفة، ونظر إليها نظرة رضا, ثم رنت عيناه بامتنان نحو العجوز وهو يشكره, وامتدت يده نحو جيبه, وقلبت أصابعه طويلا في محتوياته إلى أن اهتدت إلى قطعة معدنية بحجم معقول، انتزعها من جيبه انتزاعا وسلمها بفخر لصاحب الدكان، الذي قلبها بين يديه مستغربا وهو يصيح:

ـ عشرة دراهم فقط! نصف يوم من العمل مع قطع الغيار، مقابل هذا الأجر الزهيد!

رد الواقف بعدائية مفاجئة:

ـ كم تريد إذن؟

ـ ثلاثون درهما على الأقل.

ـ ماذا ثلاثون درهما! الساعة بكاملها لا تساوي هذا المبلغ الضخم! ثم استدارموليا ظهره للدكان وهو يضيف ساخطا: لو كنت أعلم أنني سأنتظر الصباح كله أمام دكانك الكئيب لكنت اقتنيت واحدة جديدة! ثم انصرف قائلا: تكفيك العشرة دراهم، فهي مبلغ عادل!


بقي الساعاتي جامدا يتابع حركات الزبون، وقلب القطعة النقدية بين يديه، وقد بدا له حجمها ضئيلا ، بعد أن نزع المكبر الدقيق عن عينيه، وانتشرت على محياه ملامح الحزن والكآبة، وقد عاودته أعراض مرضه القديم، وأحس بآلام مبرحة تنتشر في جسده . فتمالك نفسه قليلا، وتطلع عبر باب الدكان إلى الشارع الرئيسي أمامه، وراقبت عيناه طويلا حركة المارة في غدوهم ورواحهم. خيل إليه أن خطواتهم قد تسارعت عن ذي قبل، وأن لا أحد منهم يلتفت وراءه.. أو يتطلع إلى دكانه.. وأن منهم من يتجاهله عمدا. لم يعد أحد يسأل عنه، أو حتى يقف ليلقي التحية عليه؛ تنكر له الجميع، ولم يعد ملكا متوجا للوقت كما كان في السابق. خانه الزمن الذي قضى جل حياته يصلح آلاته.. لم تعد دورة الزمن تحتاج إلى عقارب، ولم يعد أحد يحتاج إلى خدماته.. أصبح هو ودكانه من الزمن السحيق، والعهد الغابر.. كل المحلات على جانبيه تطورت وتبدل حالها، إلا دكانه! فقد بقي صامدا لا يعرف التغيير، كفلتة من فلتات الطبيعة، وأثر شاهد على التاريخ. الكل تطور وتقدم، إلا هو فلم يتقدم إلا في السن. لم تشفع له خدمته الطويلة للزمن في الإبقاء عليه، فثم ركنه في درج النسيان والإهمال.

تعليقات